فصــل
وأما قول القائل: هل تكون صفة الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل؟
فيقال له:قد قال الله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال أبي بن كعب وغيره: مثل نوره في قلب المؤمن، إلى قوله:{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور:35: 40]، وقال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122]، فالإيمان الذي يهبه الله لعبده سماه نورًا، وسمى الوحي النازل من السماء الذي به يحصل الإيمان {نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157] وأمثال ذلك، ولا ريب أن المؤمن يفرق بين الحق والباطل، بل يفرق بين أعظم الحق، لكن لا يمكن أن يقال بأن كل من له إيمان يفرق بمجرد ما أعطيه من الإيمان بين كل حق وكل باطل.
/ فصــل
وأما قوله: هل يكون لأول حصوله سبب ؟
فلا ريب أنه يحصل بسبب، مثل استماع القرآن، ومثل رؤية أهل الإيمان، والنظر في أحوالهم، ومثل معرفة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته، والنظر في ذلك، ومثل النظر في آيات الله ـ تعالى ـ ومثل التفكر في أحوال الإنسان نفسه، ومثل الضروريات التي يحدثها الله للعبد التي تضطره إلى الذل لله، والاستسلام له، واللجأ إليه، وقد يكون هذا سببًا لشيء آخر، بل كل ما يكون في العالم من الأمور فلابد له من سبب، وسبب الإيمان وشعبه يكون تارة من العبد، وتارة من غيره، مثل من يقيض له من يدعوه إلى الإيمان، ومن يأمره بالخير، وينهاه عن الشر، ويبين له علامات الدين، وحججه وبراهينه، وما يعتبره وينزل به ويتعظ به، وغير ذلك من الأسباب.
/ فصــل
وأما قوله: فالأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها، هل يبدأ بالزهد؟ أو بالعلم، أو بالعبادة ؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته؟
فيقال له: لابد من الإيمان الواجب، والعبادة الواجبة، والزهد الواجب، ثم الناس يتفاضلون في الإيمان، كتفاضلهم في شعبه، وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه، ويقدم ما يقدر على تقديمه من الفاضل.
والناس يتفاضلون في هذا الباب،فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر،فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل،فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له،وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقًا، إذا كان متعذرًا في حقه أو متعسرا يفوته ما هو أفضل له وأنفع،كمن يقرأ القرآن بالليل فيتدبره وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه، ولا ينتفع منها بعمل، أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة.
/فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه بل على وجه ناقص، ويفوته به ما هو أنفع له،ومعلوم أن الصلاة آكد من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء، ومعلوم ـ أيضًا ـ أن الذكر في فعله الخاص ـ كالركوع والسجود ـ أفضل من قراءة القرآن في ذلك المحل، وأن الذكر والقراءة والدعاء عند طلوع الشمس وغروبها خير من الصلاة.
والزهد هو ضد الرغبة، وهو كالبغض المخالف للمحبة، والكراهة المخالفة للإرادة، وكل من الإرادة والكراهة له أقسام في نفسه، وفي متعلقه، فالزهد فيه انقسام إلى: المزهود فيه، وإلى نفس الزهد.
أما الأول: فإن الزهد... وأما نفس الزهد الذي هو ضد الرغبة، وهو الكراهة والبغض فحقيقة المشروع منه، أن يكون كراهة العبد وبغضه وحبه تابعًا لحب الله وبغضه ورضاه وسخطه، فيحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يسخطه الله، بحيث لا يكون تابعًا هواه، بل لأمر مولاه، فإن كثيرًا من الزهاد في الحياة الدنيا أعرضوا عن فضولها، ولم يقبلوا على ما يحبه الله ورسوله، وليس مثل هذا الزهد يأمر الله به ورسوله، ولهذا كان في المشركين زهاد , وفي أهل الكتاب زهاد، وفي أهل البدع زهاد.
ومن الناس من يزهد لطلب الراحة من تعب الدنيا ومنهم من يزهد لمسألة أهلها والسلامة من أذاهم , ومنهم من يزهد في المال لطلب الراحة , إلى أمثال هذه الأنواع التي لا يأمر الله بها ولا رسوله , وإنما يأمر الله ورسوله أن يزهد فيما لا يحبه الله ورسوله , ويرغب فيما يحبه الله ورسوله , فيكون زهده هو الإعراض عما لا يأمر الله به ورسوله، أمر إيجاب ولا أمر استحباب، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا مستوى الطرفين في حق العبد , ويكون مع ذلك مقبلا على ما أمر الله به ورسوله، وإلا فترك المكروه بدون فعل المحبوب ليس بمطلوب، وغنما المطلوب بالمقصود الأول فعل ما يحبه الله ورسوله وترك المكروه متعين كذلك به تزكو النفس؛ فإن الحسنات إذا انتفت عنها السيئات زكت فبالزكاة تطيب النفس من الخبائث، وتعظم في الطاعات , كما أن الزرع إذا أزيل عنه الدغل زكا وظهر وعظم.
فصل:
وأما طريق الوصول إلى ذلك: فبالاجتهاد في فعل المأمور وترك المحظور والاستعانة به على ذلك ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على رجل فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد بأن يحرص على ما ينفعه ويستعين بالله على ذلك والحرص على ما ينفعه هو الاجتهاد في الخير وهو العبادة؛ فإن كل ما ينفع العبد فهو مأمور بطلبه وإنما ينهى عن طلب ما يضره - وإن اعتقد أنه ينفعه - كما يطلب المحرمات وهي تضره ويطلب المفضول الذي لا ينفعه والله تعالى أباح للمؤمنين الطيبات وهي ما ينفعهم وحرم عليهم الخبائث وهي ما يضرهم والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه
فصل:
وأما الإيمان: هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟. فالجواب أن هذه المسألة نشأ النزاع فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟ وهي محنة الإمام أحمد وغيره من علماء المسلمين وقد جرت فيها أمور يطول وصفها هنا لكن لما ظهر القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأطفأ الله نار الجهمية المعطلة صارت طائفة يقولون إن كلام الله الذي أنزله مخلوق ويعبرون عن ذلك باللفظ فصاروا يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة أو تلاوتنا أو قراءتنا مخلوقة وليس مقصودهم مجرد كلامهم وحركاتهم بل يدخلون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرأ بأصواتنا وحركاتنا وعارضهم طائفة أخرى فقالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة فرد الإمام أحمد على الطائفتين وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع. وتكلم الناس حينئذ في الإيمان فقالت طائفة: الإيمان مخلوق وأدرجوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان مثل: قول لا إله إلا الله فصار مقتضى قولهم أن نفس هذه الكلمة مخلوقة ولم يتكلم الله بها فبدع الإمام أحمد هؤلاء وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله) أيكون قول لا إله إلا الله مخلوقا. ومراده أن من قال: هي مخلوقة مطلقا كان مقتضى قوله إن الله لم يتكلم بهذه الكلمة كما أن من قال: إن ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا للقرآن مخلوقة كان مقتضى كلامه أن الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله وأن القرآن المنزل ليس هو كلام الله وأن يكون جبريل نزل بمخلوق ليس هو كلام الله والمسلمون يقرءون قرآنا مخلوقا ليس هو كلام الله وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى وإن كان مسموعا من المبلغ عنه فإن الكلام قد سمع من المتكلم به كما سمعه موسى بلا واسطة وهذا سماع مطلق - كما يرى الشيء رؤية مطلقة وقد يسمعه من المبلغ عنه فيكون قد سمعه سمعا مقيدا - كما يرى الشيء في الماء والمرآة رؤية مقيدة لا مطلقة أو كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ} [ التوبة:6] كان معلوما عند جميع من خوطب بالقرآن أنه يسمع سماعا مقيدا من المبلغ ليس المراد به أنه يسمع من الله. ومن هؤلاء من قال: إنه يسمع صوت القارئ من الله ثم من هؤلاء من يقول: إن صوت الرب حل في العبد ومنهم من يقول ظهر فيه - ولم يحل فيه ومنهم من يقول لا أقول ظهر ولا حل ومنهم من قال الصوت المسموع غير مخلوق أو قديم ومنهم من يقول يسمع منه صوتان: مخلوق وغير مخلوق. ومن القائلين بأنه مسموع من الله من يقول: بأنه يسمع المعنى القديم القائم بذات الرب مع سماع الصوت المحدث؛ قال هؤلاء يسمع القديم والمحدث كما قال أولئك يسمع صوتين قديما ومحدثا؛ وطائفة أخرى قالت: لم يسمع الناس كلام الله؛ لا من الله ولا من غيره؛ قالوا: لأن الكلام لا يسمع إلا من المتكلم؛ ثم من هؤلاء من قال: تسمع حكايته ومنهم من قال: تسمع عبارته لا حكايته؛ ومن القائلين بأنه مخلوق من قال: يسمع شيئان: الكلام المخلوق؛ والذي خلقه؛ والصوت الذي للعبد. وهذه الأقوال كلها مبتدعة مخترعة لم يقل السلف شيئا منها؛ وكلها باطلة شرعا وعقلا ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ؛ واشتباه في المعاني؛ فإنه إذا قيل سمعت كلام زيد أو قيل هذا كلام زيد فإن هذا يقال: على كلامه الذي تكلم به بلفظه ومعناه سواء كان مسموعا منه أو من المبلغ عنه مع العلم بالفرق بين الحالين وأنه إذا سمع منه سمع بصوته وإذا سمع من غيره سمع بصوت ذلك المبلغ لا بصوت المتكلم وإن كان اللفظ لفظ المتكلم وقد يقال مع القرينة هذا كلام فلان وإن ترجم عنه بلفظ آخر كما يحكي الله كلام من يحكي قوله من الأمم باللسان العربي وإن كانوا إنما قالوه بلفظ عبري أو سرياني أو قبطي أو غير ذلك وهذه الأمور مبسوطة في مواضع أخر. و المقصود هنا أنه نشأ بين أهل السنة والحديث النزاع في [مسألتي: القرآن والإيمان ]بسبب ألفاظ مجملة ومعاني متشابهة وطائفة من أهل العلم والسنة: كالبخاري صاحب الصحيح ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما قالوا: الإيمان مخلوق؛ وليس مرادهم شيئا من صفات الله. وإنما مرادهم بذلك أفعال العباد وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أفعال العباد مخلوقة وقال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. وصار بعض الناس يظن أن البخاري وهؤلاء خالفوا أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة وجرت للبخاري محنة بسبب ذلك حتى زعم بعض الكذابين أن البخاري لما مات أمر أحمد بن حنبل ألا يصلى عليه وهذا كذب ظاهر فإن أبا عبد الله البخاري - رحمه الله - مات بعد أحمد بن حنبل بنحو خمس عشرة سنة فإن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي البخاري سنة ست وخمسين ومائتين وكان أحمد بن حنبل يحب البخاري ويجله ويعظمه وأما تعظيم البخاري وأمثاله للإمام أحمد فهو أمر مشهور ولما صنف البخاري كتابه في خلق أفعال العباد وذكر في آخر الكتاب أبوابا في هذا المعنى؛ ذكر أن كلا من الطائفتين القائلين: بأن لفظنا بالقرآن مخلوق والقائلين بأنه غير مخلوق ينسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل ويدعون أنهم على قوله وكلا الطائفتين لم تفهم دقة كلام أحمد - رضي الله عنه -. وطائفة أخرى: كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم ممن يقولون إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل وأئمة أهل السنة والحديث قالوا: أحمد وغيره كرهوا أن يقال: لفظي بالقرآن؛ فإن اللفظ هو الطرح والنبذ وطائفة أخرى كأبي محمد بن حزم وغيره ممن يقول أيضا: إنه متبع لأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة إلى غير هؤلاء ممن ينتسب إلى السنة ومذهب الحديث يقولون إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل ونحوه من أهل السنة وهم لم يعرفوا حقيقة ما كان يقوله أئمة السنة؛ كأحمد بن حنبل وأمثاله وقد بسطنا أقوال السلف والأئمة: أحمد بن حنبل وغيره في غير هذا الموضع. وأما البخاري وأمثاله فإن هؤلاء من أعرف الناس بقول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة؛ وقد رأيت طائفة تنتسب إلى السنة والحديث: كأبي نصر السجزي وأمثاله ممن يردون على أبي عبد الله البخاري يقولون. إن أحمد بن حنبل كان يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق; وذكروا روايات كاذبة لا ريب فيها; والمتواتر عن أحمد بن حنبل من رواية بنيه: صالح وعبد الله وحنبل والمروذي؛ وقوزان ومن لا يحصي عددهم إلا الله تبين أن أحمد كان ينكر على هؤلاء وهؤلاء وقد صنف أبو بكر المروذي في ذلك مصنفا ذكر فيه قول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم؛ وقد ذكر ذلك الخلال - في كتاب [السنة ]وذكر بعضه أبو عبد الله بن بطة في كتاب [ الإبانة ] وقد ذكر كثيرا من ذلك أبو عبد الله بن منده فيما صنفه في [ مسألة اللفظ ]. وقال أبو محمد بن قتيبة الدينوري: لم يختلف أهل الحديث في شيء من اعتقادهم إلا في مسألة اللفظ؛ ثم ذكر ابن قتيبة: أن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا؛ ويراد به نفس الكلام الذي هو فعل العبد وصوته وهو مخلوق وأما نفس كلام الله الذي يتكلم به العباد فليس مخلوقا وكذلك [ مسألة الإيمان ] لم يقل قط أحمد بن حنبل أن الإيمان غير مخلوق؛ ولا قال أحمد ولا غيره من السلف أن القرآن قديم؛ وإنما قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ولا قال أحمد بن حنبل ولا أحد من السلف أن شيئا من صفات العبد وأفعاله غير مخلوقة ولا صوته بالقرآن ولا لفظه بالقرآن؛ ولا إيمانه ولا صلاته ولا شيء من ذلك. لكن المتأخرون انقسموا في هذا الباب انقساما كثيرا؛ فالذين كانوا يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق؛ منهم من أطلق القول بأن الإيمان غير مخلوق ومنهم من يقول قديم في هذا وهذا؛ ومنهم من يفرق بين الأقوال الإيمانية والأفعال فيقولون: الأقوال غير مخلوقة وقديمة; وأفعال الإيمان مخلوقة؛ ومنهم من يقول في أفعال الإيمان إن المحرم منها مخلوق وأما الطاعات كالصلاة وغيرها فمنهم من يقول: هي غير مخلوقة; ومنهم من يمسك فلا يقول: هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ومنهم من يمسك عن الأفعال المحرمة ومنهم من يقول: بل أفعال العباد كلها غير مخلوقة أو قديمة؛ ويقول ليس مرادي بالأفعال الحركات؛ بل مرادي الثواب الذي يجيء يوم القيامة ويحتج هذا بأن القدر غير مخلوق والشرع غير مخلوق. ويجعل أفعال العباد هي: القدر والشرع ولا يفرق بين القدر والمقدور والشرع والمشروع؛ فإن الشرع الذي هو أمر الله ونهيه غير مخلوق وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها فلا ريب أنها مخلوقة؛ وكذلك القدر الذي هو علمه ومشيئته وكلامه غير مخلوق وأما المقدرات: الآجال والأرزاق والأعمال فكلها مخلوقة وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وقائليها في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة ومن اتبعه كلهم بريئون من الأقوال المبتدعة المخالفة للشرع والعقل ولم يقل أحد منهم أن القرآن قديم لا معنى قائم بالذات ولا إنه تكلم به في القديم بحرف وصوت ولا تكلم به في القديم بحرف قديم؛ لم يقل أحد منهم لا هذا ولا هذا وإن الذي اتفقوا عليه أن كلام الله منزل غير مخلوق والله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكلامه لا نهاية له. كما قال الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] وهو قديم بمعنى: أنه لم يزل الله متكلما بمشيئته؛ لا بمعنى أن الصوت المعين قديم كما بسطت الكلام في غير هذا الموضع على اختلاف أهل الأرض في كلام الله تعالى: منهم من يجعله فيضا من العقل الفعال على النفوس. كقول طائفة من الصابئة والفلاسفة وهو أفسد الأقوال ومنهم من يقول هو مخلوق خلقه بائنا عنه: كقول الجهمية والنجارية والمعتزلة ومنهم من يقول هو معنى قديم قائم بالذات: كقول ابن كلاب والأشعري ومنهم من يقول هو حروف وأصوات: كقول ابن سالم وطائفة ومنهم من يقول تكلم بعد أن لم يكن متكلما: كقول ابن كرام وطائفة. والصواب من هذه الأقوال قول السلف والأئمة: كما قد بسطت ألفاظهم في غير هذا الموضع. ولما ظهرت المحنة كان أهل السنة يقولون: كلام الله غير مخلوق. وكانت [الجهمية] من المعتزلة وغيرهم. يقولون: إنه مخلوق وكان أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان له فضيلة ومعرفة رد بها على الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات وبين أن الله نفسه فوق العرش؛ وبسط الكلام في ذلك ولم يتخلص من شبهة الجهمية كل التخلص؛ بل ظن أن الرب لا يتصف بالأمور الاختيارية التي تتعلق بقدرته ومشيئته فلا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته؛ بل محبا راضيا أو غضبان ساخطا على من علم أنه يموت مؤمنا أو كافرا. ولا يتكلم بكلام بعد كلام وقد قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران:59] وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31] وقال تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف :55] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] وهذا أصل كبير قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا التنبيه على مآخذ اختلاف المسلمين في مثل [هذه المسائل] وإذا عرف ذلك فالواجب أن نثبت ما أثبته الكتاب والسنة وننفي ما نفى الكتاب والسنة. واللفظ المجمل الذي لم يرد في الكتاب والسنة لا يطلق في النفي والإثبات حتى يتبين المراد به كما إذا قال القائل: الرب متحيز أو غير متحيز أو هو في جهة أو ليس في جهة قيل هذه الألفاظ مجملة لم يرد بها الكتاب والسنة لا نفيا ولا إثباتا ولم ينطق أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بإثباتها ولا نفيها. فإن كان مرادك بقولك إنه يحيط به شيء من المخلوقات؛ وليس هو بقدرته يحمل العرش وحملته وليس هو العلي الأعلى الكبير العظيم الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو سبحانه أكبر من كل شيء فليس هو متحيزا بهذا الاعتبار وإن كان مرادك أنه بائن عن مخلوقاته عال عليها فوق سمواته على عرشه؛ فهو سبحانه بائن من خلقه كما ذكر ذلك أئمة السنة مثل: عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أعلام الإسلام وكما دل على ذلك صحيح المنقول وصريح المعقول كما هو مبسوط في مواضع أخر. وكذلك لفظ [الجهة] إن أراد بالجهة أمرا موجودا يحيط بالخالق أو يفتقر إليه فكل موجود سوى الله فهو مخلوق. والله خالق كل شيء وكل ما سواه فهو فقير إليه وهو غني عما سواه وإن كان مراده أن الله سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذا صحيح. سواء عبر عنه بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة. وكذلك لفظ [الجبر] إذا قال: هل العبد مجبور أو غير مجبور ؟ قيل: إن أراد بالجبر أنه ليس له مشيئة؛ أو ليس له قدرة؛ أو ليس له فعل؛ فهذا باطل فإن العبد فاعل لأفعاله الاختيارية وهو يفعلها بقدرته ومشيئته وإن أراد بالجبر أنه خالق مشيئته وقدرته وفعله فإن الله تعالى خالق ذلك كله. وإذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق ؟ قيل له: ما تريد [بالإيمان] ؟ أتريد به شيئا من صفات الله وكلامه كقوله: لا إله إلا الله و [إيمانه] الذي دل عليه اسمه المؤمن فهو غير مخلوق أو تريد شيئا من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة ولا يقول هذا من يتصور ما يقول فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات إذا فصل فيها الخطاب ظهر الخطأ من الصواب. والواجب على الخلق أن ما أثبته الكتاب والسنة أثبتوه وما نفاه الكتاب والسنة نفوه وما لم ينطق به الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات استفصلوا فيه قول القائل؛ فمن أثبت ما أثبته الله ورسوله فقد أصاب ومن نفى ما نفاه الله ورسوله فقد أصاب ومن أثبت ما نفاه الله أو نفى ما أثبته الله فقد لبس دين الحق بالباطل فيجب أن يفصل ما في كلامه من حق وباطل فيتبع الحق ويترك الباطل وكلما خالف الكتاب والسنة فإنه مخالف أيضا لصريح المعقول فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح كما أن المنقول عن الأنبياء عليهم السلام لا يخالف بعضه بعضا ولكن كثير من الناس يظن تناقض ذلك وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب {َإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176] ونسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
فصل:
[الاستثناء في الإيمان سنة] عند أصحابنا وأكثر أهل السنة وقالت المرجئة والمعتزلة: لا يجوز الاستثناء فيه بل هو شك؛ والاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله أو مؤمن أرجو أو آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله أو إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي فنعم وإن كنت تريد {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] فالله أعلم. ثم هنا [ثلاثة أقوال] إما أن يقال: الاستثناء واجب فلا يجوز القطع وهذا قول القاضي في عيون المسائل وغيره وإما أن يقال: هو مستحب ويجوز القطع باعتبار آخر وإما أن يقال: كلاهما جائز باعتبار وإنما ذكر أن الاستثناء سنة بمعنى أنه جائز ردا على من نهى عنه فإذا قلنا هو واجب فمأخذ القاضي أنه لو جاز القطع على أنا مؤمنون لكان ذلك قطعا على أنا في الجنة لأن الله وعد المؤمنين الجنة ولا يجوز القطع على الوعد بالجنة لأن من شرط ذلك الموافاة بالإيمان ولا يعلم ذلك إلا الله وكذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة ولا يعلم ذلك. ولهذا قال ابن مسعود: هلا وكل الأولى كما وكل الآخرة. يريد بذلك ما استدل به من أن رجلا قال عنده: إني مؤمن فقيل لابن مسعود هذا يزعم أنه مؤمن قال: فسلوه أفي الجنة هو أو في النار ؟ فسألوه فقال: الله أعلم فقال عبد الله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية. [قلت]: ويستدل أيضا على وجوب الاستثناء بقول عمر: من قال إنه مؤمن فهو كافر ومن زعم أنه في الجنة فهو في النار ومن زعم أنه عالم فهو جاهل ولما استدل المنازع بأن الاستثناء إنما يحتاج إليه لمستقبل يشك في وقوعه قال: الجواب إن هنا مستقبلا يشك في وقوعه وهو الموافاة بالإيمان؛ والإيمان مرتبط بعضه ببعض فهو كالعبادة الواحدة.
[قلت]: فحقيقة هذا القول أن الإيمان اسم للعبادة من أول الدخول فيه إلى أن يموت عليه فإذا انتقض تبين بطلان أولها كالحدث في آخر الصلاة والوطء في آخر الحج والأكل في آخر النهار؛ وقول مؤمن عند الإطلاق يقتضي فعل الإيمان كله كقول مصل وصائم وحاج؛ فهذا مأخذ القاضي. وقد ذكر بعدها في المعتمد [مسألة الموافاة] وهي متصلة بها وهو أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافرا؛ وبالعكس؛ هل يتعلق رضا الله وسخطه ومحبته وبغضه بما هو عليه أو بما يوافي به. والمسألة متعلقة بالرضا والسخط: هل هو قديم أو محدث ؟ و [المأخذ الثاني]: أن الاسم عند الإطلاق يقتضي الكمال؛ وهذا غير معلوم للمتكلم كما قال أبو العالية: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه لا يقول إن إيماني كإيمان جبريل فإخبار الرجل عن نفسه أنه كامل الإيمان خبر بما لا يعلمه وهذا معنى قول ابن المنزل: أن المرجئة تقول إن حسناتها مقبولة وأنا لا أشهد بذلك وهذا مأخذ يصلح لوجوب الاستثناء وهذا المأخذ الثاني للقاضي فإن المنازع احتج بأنه لما لم يجز الاستثناء في الإسلام فكذلك في الإيمان. قال: والجواب أن الإسلام مجرد الشهادتين وقد أتى بهما والإيمان أقوال وأعمال لقوله: (الإيمان بضع وسبعون بابا) وهو لا يتحقق كل ذلك منه. [المأخذ الثالث]: أن ذلك تزكية للنفس وقد قال الله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] وهذا يصلح للاستحباب وإلا فإخبار الرجل بصفته التي هو عليها جائز وإن كانت مدحا وقد يصلح للإيجاب قال الأثرم في [السنة]: حدثنا أحمد بن حنبل سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه ؟ قال: أما أنا فلا أعيبه فأستثني مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك إنما يستثنى للعمل قال أبو عبد الله: قال الله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ} [الفتح:27] أي إن هذا الاستثناء لغير شك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي لم يكن يشك في هذا وقد استثنى وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نبعث إن شاء الله من القبر) وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني والله لأرجو أن أكون أخشاكم لله) قال هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان. قلت لأبي عبد الله: فكأنك لا ترى بأسا أن لا يستثنى فقال إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فهو أسهل عندي ثم قال أبو عبد الله إن قوما تضعف قلوبهم عن الاستثناء فتعجب منهم وذكر كلاما طويلا تركته. فكلام أحمد يدل على أن الاستثناء لأجل العمل وهذا [المأخذ الثاني] وأنه لغير شك في الأصل وهو يشبه [الثالث] ويقتضي أن يجوز ترك الاستثناء وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن فيصح إذا عنى أصل الإيمان دون كماله والدخول فيه دون تمامه كما يقول: أنا حاج وصائم لمن شرع في ذلك وكما يطلقه في قوله آمنت بالله ورسله وفي قوله: إن كنت تعني كذا وكذا أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة وعلى هذا يخرج ما روي عن صاحب معاذ بن جبل وما روي في حديث الحارث الذي قال: [أنا مؤمن حقا] وفي حديث الوفد الذين قالوا: [نحن المؤمنون] وإن كان في الإسنادين نظر.
سئل: عن معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان) رواه الترمذي وأبو داود. وهل يكون الزاني في حالة الزنا مؤمنا أو غير مؤمن ؟ وهل حمل الحديث على ظاهره أحد من الأئمة أو أجمعوا على تأويله؟
فأجاب: الحمد لله: الناس في الفاسق من أهل الملة مثل الزاني والسارق والشارب ونحوهم [ثلاثة أقسام]: طرفين ووسط. [أحد الطرفين]: أنه ليس بمؤمن بوجه من الوجوه ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان ثم من هؤلاء من يقول: هو كافر: كاليهودي والنصراني. وهو قول الخوارج ومنهم من يقول: ننزله منزلة بين المنزلتين؛ وهي منزلة الفاسق وليس هو بمؤمن ولا كافر وهم المعتزلة وهؤلاء يقولون: إن أهل الكبائر يخلدون في النار وإن أحدا منهم لا يخرج منها؛ وهذا من [مقالات أهل البدع] التي دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على خلافها قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} - إلى قوله - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:9، 10] فسماهم مؤمنين وجعلهم إخوة مع الاقتتال وبغي بعضهم على بعض وقال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ولو أعتق مذنبا أجزأ عتقه بإجماع العلماء. ولهذا يقول علماء السلف في المقدمات الاعتقادية: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل وقد ثبت الزنا والسرقة وشرب الخمر على أناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحكم فيهم حكم من كفر ولا قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين بل جلد هذا وقطع هذا وهو في ذلك يستغفر لهم ويقول: لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم وأحكام الإسلام كلها مرتبة على هذا الأصل. [الطرف الثاني]: قول من يقول: إيمانهم باق كما كان لم ينقص بناء على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم وهو لم يتغير وإنما نقصت شرائع الإسلام وهذا قول المرجئة والجهمية ومن سلك سبيلهم وهو أيضا قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين والتابعين لهم بإحسان. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} - إلى قوله - {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2: 4] وقال: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ} [آل عمران:173] وقال: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} [الفتح:4] وقال: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة :124]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). وقال لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن تؤدوا خمس ما غنمتم). وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب ثم قول اللسان وعمل الجوارح. فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم الناس في هذا على أقسام: منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل ومنهم من صدق جملة وتفصيلا ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق ومنهم من يغفل عنه ويذهل ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة أو تقليد جازم وهذا التصديق يتبعه عمل القلب وهو حب الله ورسوله وتعظيم الله ورسوله وتعزير الرسول وتوقيره وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه إلى غير ذلك من الأحوال فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة للمعلول. ويتبع الاعتقاد قول اللسان ويتبع عمل القلب الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك. وعند هذا فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلبون الاسم على الإطلاق ولا يعطونه على الإطلاق. فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن عاص أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ويقال: ليس بمؤمن حقا أو ليس بصادق الإيمان. وكل كلام أطلق في الكتاب والسنة فلا بد أن يقترن به ما يبين المراد منه. والأحكام منها ما يترتب على أصل الإيمان فقط؛ كجواز العتق في الكفارة وكالموالاة والموارثة ونحو ذلك ومنها ما يترتب على أصله وفرعه: كاستحقاق الحمد والثواب وغفران السيئات ونحو ذلك. إذا عرفت [هذه القاعدة]. فالذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن) والزيادة التي رواها أبو داود والترمذي صحيحة وهي مفسرة للرواية المشهورة. فقول السائل: هل حمل الحديث على ظاهره أحد من الأئمة ؟ لفظ مشترك؛ فإن عنى بذلك أن ظاهره أن الزاني يصير كافرا وأنه يسلب الإيمان بالكلية فلم يحمل الحديث على هذا أحد من الأئمة ولا هو أيضا ظاهر الحديث لأن قوله (خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة) دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية فإن الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط. وأما إن عنى بظاهره ما هو المفهوم منه كما سنفسره إن شاء الله فنعم؛ فإن عامة علماء السلف يقرون هذه الأحاديث ويمرونها كما جاءت ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نقل كراهة تأويل أحاديث الوعيد: عن سفيان. وأحمد بن حنبل - رضي الله عنهم - وجماعة كثيرة من العلماء ونص أحمد على أن مثل هذا الحديث لا يتأول تأويلا يخرجه عن ظاهره المقصود به وقد تأوله الخطابي وغيره تأويلات مستكرهة مثل قولهم لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي: أي ينبغي للمؤمن ألا يفعل ذلك وقولهم: المقصود به الوعيد والزجر دون حقيقة النفي وإنما ساغ ذلك لما بين حاله وحال من عدم الإيمان من المشابهة والمقاربة وقولهم: إنما عدم كمال الإيمان وتمامه أو شرائعه وثمراته ونحو ذلك وكل هذه التأويلات لا يخفى حالها على من أمعن النظر. فالحق أن يقال: نفس التصديق المفرق بينه وبين الكافر لم يعدمه لكن هذا التصديق لو بقي على حاله لكان صاحبه مصدقا بأن الله حرم هذه الكبيرة وأنه توعد عليها بالعقوبة العظيمة وأنه يرى الفاعل ويشاهده؛ وهو سبحانه وتعالى مع عظمته وجلاله وعلوه وكبريائه يمقت هذا الفاعل فلو تصور هذا حق التصور لامتنع صدور الفعل منه ومتى فعل هذه الخطيئة فلا بد من أحد [ثلاثة أشياء]. إما اضطراب العقيدة؛ بأن يعتقد بأن الوعيد ليس ظاهره كباطنه وإنما مقصوده الزجر كما تقوله: المرجئة. أو أن هذا إنما يحرم على العامة دون الخاصة كما يقوله الإباحية أو نحو ذلك من العقائد التي تخرج عن الملة. وإما الغفلة والذهول عن التحريم وعظمة الرب وشدة بأسه. وإما فرط الشهوة بحيث يقهر مقتضى الإيمان ويمنعه موجبه بحيث يصير الاعتقاد مغمورا مقهورا كالعقل في النائم والسكران وكالروح في النائم. ومعلوم أن [الإيمان] الذي هو الإيمان ليس باقيا كما كان؛ إذ ليس مستقرا ظاهرا في القلب واسم المؤمن عند الإطلاق إنما ينصرف إلى من يكون إيمانه باقيا على حاله عاملا عمله وهو يشبه من بعض الوجوه روح النائم؛ فإنه سبحانه: يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها؛ فالنائم ميت من وجه حي من وجه وكذلك السكران والمغمى عليه عاقل من وجه وليس بعاقل من وجه فإذا قال قائل: السكران ليس بعاقل فإذا صحا عاد عقله إليه كان صادقا مع العلم بأنه ليس بمنزلة البهيمة إذ عقله مستور وعقل البهيمة معدوم؛ بل الغضبان ينتهي به الغضب إلى حال يعزب فيها عقله ورأيه وفي الأثر (إذا أراد الله نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم فإذا أنفذ قضاءه. وقدره رد عليهم عقولهم ليعتبروا) فالعقل الذي به يكون التكليف لم يسلب وإنما سلب العقل الذي به يكون صلاح الأمور في الدنيا والآخرة. كذلك الزاني والسارق والشارب والمنتهب لم يعدم الإيمان الذي به يستحق ألا يخلد في النار وبه ترجى له الشفاعة والمغفرة وبه يستحق المناكحة والموارثة لكن عدم الإيمان الذي به يستحق النجاة من العذاب ويستحق به تكفير السيئات وقبول الطاعات وكرامة الله ومثوبته؛ وبه يستحق أن يكون محمودا مرضيا. وهذا يبين أن الحديث على ظاهره الذي يليق به. والله أعلم.
سئل رحمه الله: عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) هل هذا الحديث مخصوص بالمؤمنين أم بالكفار ؟ فإن قلنا مخصوص بالمؤمنين فقولنا ليس بشيء؛ لأن المؤمنين يدخلون الجنة بالإيمان. وإن قلنا مخصوص بالكافرين فما فائدة الحديث ؟
فأجاب:
لفظ الحديث في الصحيح: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) فالكبر المباين للإيمان لا يدخل صاحبه الجنة كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ومن هذا كبر إبليس وكبر فرعون وغيرهما ممن كان كبره منافيا للإيمان وكذلك كبر اليهود والذين أخبر الله عنهم بقوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. والكبر كله مباين للإيمان الواجب فمن في قلبه مثقال ذرة من كبر لا يفعل ما أوجب الله عليه ويترك ما حرم عليه بل كبره يوجب له جحد الحق واحتقار الخلق وهذا هو [الكبر] الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم حيث سئل في تمام الحديث.(فقيل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا. فمن الكبر ذاك ؟ فقال: لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس) وبطر الحق جحده ودفعه وغمط الناس ازدراؤهم واحتقارهم فمن في قلبه مثقال ذرة من هذا يوجب له أن يجحد الحق الذي يجب عليه أن يقر به وأن يحتقر الناس فيكون ظالما لهم معتديا عليهم فمن كان مضيعا للحق الواجب؛ ظالما للخلق. لم يكن من أهل الجنة ولا مستحقا لها؛ بل يكون من أهل الوعيد. فقوله: (لا يدخل الجنة) متضمن لكونه ليس من أهلها ولا مستحقا لها لكن إن تاب أو كانت له حسنات ماحية لذنبه أو ابتلاه الله بمصائب كفر بها خطاياه ونحو ذلك زال ثمرة هذا الكبر المانع له من الجنة؛ فيدخلها أو غفر الله له بفضل رحمته من ذلك الكبر من نفسه؛ فلا يدخلها ومعه شيء من الكبر ولهذا قال: من قال في هذا الحديث وغيره: إن المنفي هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب؛ لا الدخول المقيد الذي يحصل لمن دخل النار ثم دخل الجنة؛ فإنه إذا أطلق في الحديث فلان في الجنة أو فلان من أهل الجنة كان المفهوم أنه يدخل الجنة ولا يدخل النار. فإذا تبين هذا كان معناه أن من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ليس هو من أهل الجنة ولا يدخلها بلا عذاب بل هو مستحق للعذاب لكبره كما يستحقها غيره من أهل الكبائر ولكن قد يعذب في النار ما شاء الله فإنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد وهذا كقوله: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) وقوله: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم) وأمثال هذا من أحاديث الوعيد وعلى هذا فالحديث عام في الكفار وفي المسلمين. وقول القائل: إن المسلمين يدخلون الجنة بالإسلام فيقال له: ليس كل المسلمين يدخلون الجنة بلا عذاب بل أهل الوعيد يدخلون النار ويمكثون فيها ما شاء الله مع كونهم ليسوا كفارا فالرجل الذي معه شيء من الإيمان وله كبائر قد يدخل النار ثم يخرج منها: إما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإما بغير ذلك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وكما في الصحيح أنه قال:(أخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) وهكذا الوعيد في قاتل النفس والزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وغير هؤلاء من أهل الكبائر؛ فإن هؤلاء - وإن لم يكونوا كفارا - لكنهم ليسوا من المستحقين للجنة الموعودين بها بلا عقاب. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن فساق أهل الملة ليسوا مخلدين في النار كما قالت الخوارج والمعتزلة وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة؛ بل لهم حسنات وسيئات يستحقون بهذا العقاب وبهذا الثواب؛ وهذا مبسوط في موضعه والله أعلم.
سئل شيخ الإسلام: عن [بدعة المرازقة]؟
فأجاب:
ثم إن جماعات ينتسبون إلى الشيخ [عثمان بن مرزوق] ويقولون: أشياء مخالفة لما كان عليه وهو منتسب إلى مذهب أحمد وكان من أصحاب الشيخ عبد الوهاب بن أبي الفرج الشيرازي وهؤلاء ينتسبون إلى مذهب الشافعي ويقولون أقوالا مخالفة لمذهب الشافعي وأحمد؛ بل ولسائر الأئمة وشيخهم هذا من شيوخ العلم والدين له أسوة أمثاله وإذا قال قولا قد علم أن قول الشافعي وأحمد يخالفه وجب تقديم قولهما على قوله مع دلالة الكتاب والسنة على قول الأئمة؛ فكيف إذا كان القول مخالفا لقوله ولقول الأئمة وللكتاب والسنة. وذلك مثل قولهم: ولا نقول قطعا ونقول نشهد أن محمدا رسول الله ولا نقطع ونقول: إن السماء فوقنا ولا نقطع ويروون أثرا عن علي وبعضهم يرفعه أنه قال: لا تقل قطعا وهذا من الكذب المفترى باتفاق أهل العلم ولم يكن شيخهم يقول هذا بل هذه بدعة أحدثها بعض أصحابه بعد موته وإذا قيل لواحد منهم: ألا تقطع قال: إن الله قادر على أن يغير هذه الفرس فيظن أنه إذا قال قطعا أنه نفي لقدرة الله على تغيير ذلك وهذا جهل فإن هذه الفرس فرس قطعا في هذه الحال والله قادر على أن يغيرها. وأصل [شبهة هؤلاء] أن السلف كانوا يستثنون في الإيمان فيقول أحدهم: أنا مؤمن - إن شاء الله - وكانت ثغور الشام: مثل عسقلان قد سكنها محمد بن يوسف الفريابي - شيخ البخاري - وهو صاحب الثوري وكان شديدا على المرجئة وكان يرى [الاستثناء في الإيمان] كشيخه الثوري وغيره من السلف.
والناس لهم في الاستثناء [ثلاثة أقوال]: منهم من يحرمه كطائفة من الحنفية ويقولون من يستثني فهو شكاك. ومنهم من يوجبه: كطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يجوزه - أو يستحبه - وهذا أعدل الأقوال فإن الاستثناء له وجه صحيح فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله وهو يعتقد أن الإيمان فعل جميع الواجبات ويخاف أن لا يكون قائما بها فقد أحسن ولهذا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ومن اعتقد أن المؤمن المطلق هو الذي يستحق الجنة؛ فاستثنى خوفا من سوء الخاتمة فقد أصاب وهذا معنى ما يروى عن ابن مسعود أنه قيل له: عن رجل أنت مؤمن ؟ فقال: نعم فقيل له أنت من أهل الجنة فقال أرجو فقال: هلا وكل الأولى كما وكل الثانية ومن استثنى خوفا من تزكية نفسه أو مدحها أو تعليق الأمور بمشيئة الله فقد أحسن ومن جزم بما يعلمه أيضا في نفسه من التصديق فهو مصيب. والمقصود أن أصل شبهة هؤلاء [الاستثناء في الإيمان] كما عليه أهل ثغر عسقلان وما يقرب منها وعامة هؤلاء جيران عسقلان ثم صار كثير منهم يستثني في الأعمال الصالحة فيقول: صليت إن شاء الله وهو يخاف أن لا يكون أتى بالصلاة كما أمر وصنف أهل الثغر في ذلك مصنفا - وشيخهم ابن مرزوق - غايته أن يتبع هؤلاء ولم يكن هو ولا أحد قبله من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا: لما يعلم أنه موجود هذا موجود قطعا وقد نقل بعض الشيوخ أنه كان يستثني في كل شيء وكأنه يستثني - والله أعلم - في الخبر عن الأمور المستقبلة [لقوله تعالى]: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ} [الفتح:27] وقوله صلى الله عليه وسلم (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ؟). والواجب موافقة جماعة المسلمين فإن قول القائل: قطعا بذلك مثل قوله أشهد بذلك وأجزم بذلك وأعلم ذلك؛ فإذا قال: أشهد ولا أقطع؛ كان جاهلا؛ والجاهل عليه أن يرجع؛ ولا يصر على جهله؛ ولا يخالف ما عليه علماء المسلمين؛ فإنه يكون بذلك مبتدعا جاهلا ضالا. وكذلك من جهلهم قولهم إن الرافضي لا يقبل الله توبته؛ ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سب أصحابي ذنب لا يغفر) ويقولون: إن سب الصحابة فيه حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة؛ وهذا باطل لوجهين:
[أحدهما] أن الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث وهو مخالف للقرآن والسنة والإجماع؛ فإن الله يقول في آيتين من كتابه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48] وبهذا احتج أهل السنة على أهل البدع الذين يقولون: لا يغفر لأهل الكبائر إذا لم يتوبوا وذلك أن الله قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] وهذا لمن تاب فكل من تاب تاب الله عليه؛ ولو كان ذنبه أعظم الذنوب وقال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48] فهذا في حق من لم يتب.
[الثاني] أن الحديث لو كان حقا فمعناه أنه لا يغفر لمن لم يتب منه فإنه لا ذنب أعظم من الشرك والمشرك إذا تاب غفر الله له شركه باتفاق المسلمين كما قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] وفي الأخرى {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] ومعلوم أن الكافر الحربي إذا سب الأنبياء ثم تاب تاب الله عليه بالإجماع فإنه كان مستحلا لذلك وكذلك الرافضي هو يستحل سب الصحابة فإذا تبين له أنه حرام واستغفر لهم بدل ما كان منه بدل الله سيئاته بالحسنات وكان حق الآدمي في ذلك تبعا لحق الله؛ لأنه مستحل لذلك ولو قدر أنه حق لآدمي لكان بمنزلة من تاب من القذف والغيبة وهذا في أظهر قولي العلماء لا يشترط في توبته تحلله من المظلوم بل يكفي أن يحسن إليه في المغيب؛ ليهدم هذا بهذا. ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك فإن هذا عظيم لوجهين:
[أحدهما]: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها؛ بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضا فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر كفر هؤلاء وهؤلاء وإن قدر أنه لم يكفر لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى ولا تكفر طائفتها هو من الجهل والظلم وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
[والثاني]: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولا أخطأ فيه فإن الله سبحانه قال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وثبت في الصحيح (أن الله قال: قد فعلت) وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ} [الأحزاب:5] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان) وهو حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره. وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولا أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفا للسنة فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع؛ لكن للناس نزاع في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضوع. و [المقصود هنا] أنه ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ ولا إمام من الأئمة أن يكفروا من عداهم؛ بل في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقال أيضا:( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). وقال: (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) وقال:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم: كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). وليس للمنتسبين إلى ابن مرزوق أن يمنعوا من مناكحة المنتسبين إلى العوفي؛ لاعتقادهم أنهم ليسوا أكفاء لهم بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان من هؤلاء وغيرهم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وفي الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس أكرم ؟ قال أتقاهم). وفي السنن عنه أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم , وآدم من تراب).
آخر المجلد السابع